مراحل الدعوة الثلاث؛ دور التعاليم القرآنية في الرشد الاخلاقي والفكري للمجتمع

پدیدآورمحمد ناصری

تاریخ انتشار1388/11/21

منبع مقاله

share 1919 بازدید
مراحل الدعوة الثلاث؛ دور التعاليم القرآنية في الرشد الاخلاقي والفكري للمجتمع

الدكتور محمد ناصري
تعريب: علي جمال الحسيني

تعريف الاخلاق:

الخلق: جمع خليقة أعني الطبيعة، وفي التنزيل (وانك لعلى خلق عظيم) والجمع: اخلاق. والخلق السجية والطبع وحقيقته أنه لصورة الانسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ولهما أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان باوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة ولهذا تكررت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع(1).
والإنسان إنّما يتخلق باخلاق معينة حينما تنصف روحه بصفة تتحول فيه إلى ملكة نفسية وعادة دائمة بحيث يجد نفسه مستعداً ومتشوقاً لانجاز العمل بسهولة ويسر تشعرانه باللذة.
يقول كانت الفيلسوف الالماني المعروف (1724 ـ 1804): (إرادة الخير والعزم على العمل الصالح والفضيلة إنما تكون ممدوحة ومقبولة حينما تكون ناشئة من الشعور بالمسؤولية واداء الواجب).

أهمية المعرفة

كل حسن وقبح يعد معياراً مستقلاً ليس في تشخيصه كثير عناء ومشقة وعلى الباحث عن الخلق الحسن أن يميز أولاً بين الحسن والقبيح ويحدد الصفات الممدوحة والصفات المذمومة ثم تعمل القوى المحركة فيه لتسوقه نحو الفضائل وتردعه عن الرذائل رغم الغرائز الجامحة.
والمعرفة مقدمة على مرحلة التنفيذ والإقدام دائماً، والشرط الاول في أي عمل أن يعرف ويدرس من خلال الموازين والمعايير اللازمة ثم يتخذ التصميم على تنفيذه بالطرق الكفيلة(2).
وما أكثر الذين يتلذذون بالقيام بعمل ما بإعتباره (عملاً حسناً) ويحسبون أنهم استحقوا الثواب والتشجيع وهم في الحقيقة لم يفوزوا بأي جزاء أو أجر وقد تكون النتائج معكوسة عليهم.
وهذا ما يؤيده الجميع حتى في المذاهب الأخلاقية الاخرى.

يقول ول ديوارنت:

(يمكننا تعريف الفضيلة والاخلاق الحسنة بأنها الوسيلة التي توصل الانسان إلى الهدف الحقيقي وهو النظر إلى وجه الله، والانسان ميال بالطبع إلى عمر الخير وكل ما ينويه من الخير ممدوح اخلاقياً)(3).
بديهي أن للعلم دوراً واضحاً وفعّالاً في معرفة الصفات الحميدة والصفات الذممية وتميزها عن بعضها حتى ذهب البعض إلى أنّ: الاخلاق الممدوحة جميعاً تنشأ من العلم والبصيرة والصفات الرذيلة كلها ناشئة من الجهل.
وهذا ما يؤيده سقراط ولكنه يرى أن الوقوف بوجه الرغبات النفسية والشهوات شرط اساسي ـ أيضاً ـ للسعادة.
(الانسان يبحث عن السعادة والراحة، وهي لا تتأتى بالحصول على اللذات والشهوات بل تتأتى من خلال ردع الرغبات النفسية بشكل أفضل ـ وسعادة الافراد ضمن سعادة الجماعة وعلى هذا فسعادة كل إنسان في اداء واجباته تجاه الآخرين)(4).
وكان سقراط يبحث عن مبان علمية لعمل الخير والعمل الصالح ويرى أن عمل القبيح ناشئ عن الخطأ والجهل وكان يقول:
(لا يذهب الناس نحو الشرِّ عن علم وعمد ولو عرفوا الخير لاختاروه طبعاً فيجب السعي في معرفة الخير وتشخيصه فيرى مثلاً ما هي الشجاعة؟... العدالة؟ وما ذا تعني التقوى)؟(5).
وبالرغم من أن دور العلم في نشر الثقافة العامة والاخلاق وتحضّر المجتمع غير قابل للإنكار أبداً، إلاّ أنّ هذا القول لا يمكن التسليم به بشكل مطلق لأن التلازم بين العلم والعمل لا يتحقق دائماً وفي الموارد جميعاً ـ.
وما أكثر الذين لهم حظ وافر من العلم ولا يخطأون ابداً في تمييز الحسن والقبيح ولكنهم يعجزون عن كبح الميول النفسية والرغبات الشيطانية.
يعرف الحسن والقبيح جيداً ولكنه يختار القبيح عملياً تحت ضغوط الغرائز الجامحة.
وثمة فرق بين الالمام بالنظريات الاخلاقية وبين العمل بالموازين والمعايير الاخلاقية ولهذا قال النبي الأكرم صلَّى الله عليه وآله وسلم: (العلماء رجلان رجل آخذ بعلمه فهذا ناج وعالم تارك لعلمه فهذا هالك)(6).
إنّ من الجهل والسذاجة أن نحسب كل عالم طاهراً ومنزهاً وكل عابد رجل حق من العلماء فإنهم (فتنة كل مفتون)(7).
ولا قيمة أبداً لعالم بلا عمل والعبادة بلا وعي ولا عقل وإنّما يكون للعبادة قيمة حينما تكون عن وعي وادراك ويكون للعلم قيمة عندما يقترن بالعمل، وبالتالي لا ملازمة بين العلم والعمل حتى تتحرك كل المعلومات على صراط مستقيم ويتورع ويجتنب الاخلاق السيئة كلها.
وعلى كل حال، فإن ترسيخ المباني والأُسس الاخلاقية يعني الكرامة والتكامل المعنوي للفرد، بل لها دور حساس في العلاقات الاجتماعية الحسنة وحفظ المبادئ الانسانية، وهي من أهمّ قضايا المجتمع السليم الذي يعين كل فرد على معرفة واجباته ويؤدي إلى تحسين وتقوية ميثاق المحبة والتعاضد بين افراد المجتمع.
والمجتمع الذي تعوزه الاخلاق تفقد فيه هذه الكلمات معناها:
النظم والانضباط، الصدق والاستقامة، الاخلاص والحقيقة،الامانة والوفاء، التضحية. والتفاني، الشعور بالمسؤولية ومعرفة الواجبات، وبالتالي سوف لا تتوفر الارضية لنمو الامة وترقيها.
والمجتمع السالم رهين الاخلاق السليمة والأخلاق السقيمة ينبع منها الانحطاط الفكري والتخلف العلمي والثقافي والاقتصادي، كما أنّ الله سبحانه وتعالى يربط سعادة المجتمعات باخلاقيات افرادها ومعنوياتهم ويعتبر أن مصيرهم بايديهم يقررونه بأنفسهم:
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)(8).

يقول اقبال اللاهوري:

الله يمنح السرور للأمة التي تكتب اقدارها بيدها.
ويَكل الامة التي يزرع فلاحها للآخرين إلى نفسها.
ما هو المعيار؟
ما هو ملاك الحسن والقبح؟ وكيف نميز الفضائل والرذائل الاخلاقية؟
لقد اختلفت الآراء والنظريات في هذا المجال عند علماء الاخلاق وفلاسفة الشرق والغرب. ولا يسع هذا المختصر لبحثها ومناقشتها.
ولكن المرجع الأول للمعرفة والمعيار الكامل في المدرسة الاخلاقية الاسلامية هي تعاليم القرآن الكريم ومن ثمَّ سيرة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم وخلفائه المعصومين عليهم السلام.
وهذا هو القرآن الذي يؤدي أهم دور في الرشد الاخلاقي للمجتمع الاسلامي بما يقدمه من مناهج أخلاقية رفيعة وأُسس تربوية كاملة.
وقد صنع خلال فترة قياسية من الجهال الاميين اناساً نموذجيين عن طريق تعليماته البناءة. اناساً اصبحوا مضرب الامثال على صفحات التاريخ في اخلاصهم وصدقهم وتضحيتهم وإيثارهم واستحقوا الثناء والتمجيد كقدوة اخلاقية.
(كان تعامل المسلمين الاسبان(*) مع الشعوب المغلوبة بمستوى من الانسانية واللطف بحيث سمح لرؤساء الاساقفة أن يعقدوا الاجتماعات الدينية.
وبالاضافة إلى التسامح الديني كان تعامل المسلمين مع اتباع سائر المذاهب اخوياً وشريفاً للغاية حتى عرف المسلمون بالشفقة والعطف والوفاء بالعهد والميثاق، لم يكونوا متشددين، وكانوا يحملون روحاً مسالمة وديعة ويتمتعون بطيبة المعاشرة المعايشة. ويتعاملون مع الآخرين بمحبة وود حتى اسلم الكثير من المسيحيين ولم يكن اسلامهم عن طمع وإنّما عن قناعة وإيمان بالدين الجديد وتمكن العرب المسلمون خلال عدة قرون أن يقلبوا اسبانيا بالكامل من الناحية العلمية والاقتصادية ووضعوها في قمة الدول الاوربية، ولم يكتفوا بالتقدم العلمي والاقتصادي فقط بل أثروا أيضاً في الجوانب الاخلاقية لدى الناس وهم الذين علموا النصارى واتباع السيد المسيح ارفع الصفات الانسانية وانبلها)(9).
وكانت تعليمات القرآن في المرحلة الاولى من ظهور الاسلام على درجة من القوة بحيث كان من النادر يومذاك ملاحظة المشاعر الكاذبة والمتهورة وكانت المشاكل الاجتماعية أقل في الايام القريبة من عصر الرسالة، ولكننا كلما ابتعدنا عن عصر النبي واجهنا التعصب المقيت الذي لا مبرر له أكثر فأكثر وشاهدنا نيران النفاق والفرقة تستعر أكثر.
وما أعجب دور القرآن في تنوير افكار الجماهير وسوقهم نحو مكارم الاخلاق وأسس الانسانية الرفيعة والقرآن أضاء بقبس هدايته زوايا الروح البشرية وأشعل في القلوب جذوة الايمان من أجل الصلاح والاصلاح. وحل العقد المستعصية وأوجد قفزة مذهلة في الافكار والاخلاق والآداب.
وقاد أُمة بعيدة عن الحضارة نحو نظام الهي رفيع وعدل عام وسيع واعاد اليهم شخصيتهم الانسانية المفقودة وبلغ بهم ذروة العلم والكمال في فترة وجيزة:
(كتاب أنزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور)(10).
والقرآن حارب الافراط في الميول المادية والمعنوية وعالج التناقض والنزاع بين المتطلبات الروحية والغرائز الجسدية ودفع الناس إلى تحكيم العقل وتهذيب النفس وسلوك طريق الاعتدال:
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)(11).
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا الأُمم جميعاً إلى الاسلام وقدم لهم القرآن باعتباره أعظم حجة وأكبر دليل، (وقد كان للنبي معجزات أُخرى غير القرآن ولكن القرآن أعظم هذه المعجزات شأناً وأقومها بالحجة)(12).
وقد أوجد الافكار القرآنية السامية وحقائقه الساطعة تحولاً سريعاً في أخلاق العرب والأُمة الاسلامية، وانتشلهم نفوذه العجيب من حضيض الذلة وبلغ بهم إلى ذروة العظمة وكوّن لهم مكانة وشرفاً ورفعةً وسمواً يقول اقبال اللاهوري:
حينما سيطر القرآن على العالم
هزمت مخططات البابا والكاهن
أبوح بما اضمر في القلب.
ليس هذا كتاباً إنما شيء آخر.
فلو ولج الروح تغيّرت
ولو تغيّرت الروح العالم.
وكانت الاُسس الاخلاقية القرآنية وتأثيرها في حضارة المسلمين الاولى هادية ومعلمة بحيث يقول الدكتور كوستاف لوبون الفرنسي:
(لا تبلغ الاستعدادات الفنية حد الكمال في أي أُمة ناشئة في طريق الرقي حتى تمضي ثلاثة أجيال منها، ولكنها بلغت حد الكمال في الأُمة العربية (الاسلامية) منذ الجيل الأول واظهروا خصائصها ومزاياها منذ الانطلاقة الاولى)(13).
ويقول هذا العالم الغربي ـ أيضاً ـ حول حضارة المسلمين الاولى وتغير احوالهم:
(كانت اخلاق العرب في صدر الاسلام أفضل وارقى من كل الأُمم على وجه الارض حتى عرفوا بالعدالة والاعتدال والرأفة والتسامح مع الشعوب المغلوبة والوفاء بالعهد وعلو الهمة والشموخ)(14).
وقد حث القرآن ومنذ الوهلة الأولى ورغب المسلمين في طلب العلم وتعليم القراءة والكتابة، وكانت الآيات الأُولى النازلة من سورة العلق تخص هذا الموضوع: (أقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الاكرم، الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم)(15).
وسرعان ما تعلَّم المسلمون القراءة والكتابة وخطوا الخطوة الأُولى في سبيل الوصول إلى الاهداف والتقدم والرقي.
لماذا أكد الاسلام على طلب العلم؟
(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)(16).
الاسلام نظام المنطق والعقل، يبغض الجهل ويثني على العلم ويعظم المجتمع الذي ينمي العلم، لأن جميع المحن في المجتمع تنشأ جذورها من الجهل الشامل والانحطاط الثقافي، مما يؤدي إلى هذه الفاجعة الاجتماعية وتوقف النمو الفكري والوعي العام وتضعف القدرة على إدراك المسائل الجزئية.
وجهل الجماهير وعدم وعيها سبب لآلام المجتمع. الألم الذي حير الخيرين والمصلحين في عملهم وذلك لأن الذين يستطيعون تشخيص مصالحهم ومصالح مجتمعهم هم العلماء الاحرار فكرياً فقط فيخطون خطوات نافعة ويحلون المشاكل.
روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
((من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح))(17).
وقد أكد القرآن على تعاليمه السامية ليضطر الناس على التفكر، وخالف بشدة إهمال جهاز التعقل والتقليد الأعمى ودعا الناس إلى التدبر في الامور دائماً. واعتبر الجمود الفكري والحرمان من المواهب العقلية نوعاً من الموت ويعتبر الافراد من هذا القبيل في عداد أصحاب القبور ويقول مخاطباً الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (وما يستوي الأحياء ولا الأموات إنّ الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور)(18). والذين يفقدون الوعي والادراك موتى متحركون لا يقدرون على فهم آيات الله، والله سبحانه يقول: (قد فصّلنا الآيات لقوم يفقهون)(19).
والحق أن القرآن ـ وهو سر الوجود ـ لا يدركه سوى العلماء وكذلك لا يدرك آثار الطبيعة العجيبة سواهم: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب)(20)، وإنما اهتم القرآن واحترم العلم والعلماء من أجل أن ينتشر ظلال العلم ويمتد شعاعه في كل نواحي الحياة ويوفر عوامل رشدهم الفكري وينمي وعي الافراد وادراكهم ويعينهم على اختيار الافضل: (فبشّر عباد الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله واولئك هم أولوا الالباب)(21).
القرآن يعلم ويهدي ويسمي الذين يجتنبون الانانية ومحور الذات وقصر النظر بعباد الرحمن يستعمون القول ويزنونه بميزان العقل ثم يتبعون أحسنه، وهذا هو الطريق والنهج الواضح والتحرر من قيود التعصب الاعمى. فالمتعصب ـ نوعاً ـ شخص جاهل لا علم له سطحي غير واع أناني ومغرور، يقع في شراك إغواء الشيطان وتحت نفوذ وساوسه ووساوس المتشيطنين ويكون اداة مسلوبة الارادة بأيدي مصاديق الوسواس الخناس.
ولا تجد عند العلماء والمفكرين تعصباً ـ ابداً ـ وإنما عندهم العلم والتحقيق والاستدلال والبرهان ولا يثورون ابداً في وجه المخالفين ولا يغضبون فهم أهل العلم وليسوا أهل خصام ومجادلة ونزاع ومحاربة.
والتعصب بكل اشكاله وصوره مبغوض ومرفوض منذ أقدم عصور التاريخ البشري والى اليوم، فنرى في تاريخ الأديان انبياء الله في معركة فكرية مستمرة وحجاج دائم مع المتعصبين، حيث إنّ أهم أهداف سفراء الحق هي توعية الناس وايقاظ أفكار النائمين.
وقد بذل ابراهيم عليه السلام كل ما في وسعه لمواجهة المتعصبين من عبدة الاصنام، ووجّههم لإله العالمين، ولكنّ عبدة الاصنام البابليين ظلوا يتعصبون لهذه العبادة ولم يتركوا دين الآباء والاجداد: (إن قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين)(22).
فقال ابراهيم عليه السلام:
(لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين).
وكان ابراهيم النبي عليه السلام يريد تغيير هيئتهم واصلاح ارواحهم ليغير ثقافتهم وآدابهم ويفك عنهم قيود عبادة الاصنام.
ولم تفد معهم التوجيهات العلنية والمتكررة ولا الاستدلالات المنطقية ولم تؤثر في سلوكهم وعاداتهم، مما اضطر النبي ابراهيم إلى اتخاذ القرار.
ففي ذات يوم خرج الجميع من المدينة والمعبد ليحضروا احتفالاً عاماً دخل ابراهيم إلى المعبد يحمل فأساً وجعل الاصنام جذاذاً إلاّ كبيراً لهم، ثم علق الفأس على رقبة الصنم الكبير، ليقول إن هذا الصنم عاقب باقي الاصنام وحطمها.
وحينئذ أعلن الحداد العام في المدينة ونصب عباد الاصنام مأتماً لآلهتهم ودعوا بالويل والثبور وبكوا حزناً، وهنا صرخ فيهم رجل: إن هذا فعله ابراهيم، فقد سمعناه يذكر آلهتنا بسوء ويهدّدهم فجاءوا بإبراهيم وسألوه: (أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا ابراهيم)(23).
وأجاب ابراهيم: (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون)(24). وهو يعلم أنّ الاصنام لا تنطق ولكنه أراد أن يفهم عبدة الاصنام المتعصبين ويحتج عليهم بأن هذه الاصنام جمادات لا روح فيها لا تسمع ولا تبصر ولا تدفع عن نفسها ضرراً ولا تكسب خيراً، فكيف يمكن لهذه الموجودات العاجزة التي لا إرادة لها ولا حول ولا طول أن تكون الهة للعالمين ومعبودة للناس أجمعين؟
وكان ابراهيم عليه السلام يتوخى من بيانه هذا هدفاً وهو ايقاظ الافكار النائمة، وهو يعتقد أنّ هذه الطائفة تفتخر بالعار الذي لحقها من عبادة الاصنام لفرط جهلها وعدم معرفتها. وربما يكون هذا النمط من الاستدلال فرصة تهز أدمغتهم وتنير أفكارهم على أمل أن يفكروا ولو للحظة ويكتشفوا قبح اعمالهم ويجتنبوا عبادة هذه الاحجار التي لا تضر ولا تنفع.
وكانت فكرة ابراهيم عليه السلام وخطته صائبة، فقد غرقوا في التفكير واعملوا عقولهم وقالوا لبعضهم بلغة النظرات: صدق ابراهيم والحق معه فهذه الاصنام لا روح فيها ولا تنطق ولا تدفع ضرراً فالويل لنا إلى متى الذل؟ والى أي مدى الغفلة؟ (ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) (25).
ويبدو أن أهم ما يهدف إليه القرآن من ذكر هذه القصة هو هذا النحو من الاستدلال والاحتجاج، بمعنى أن ترشيد الافكار وتغيير السلوك في ايّ مجتمع إنما يتيسر عندما يقترن الارشاد والهداية بالبرهان والدليل العقلي الذي يلجئ الانسان إلى التفكر والتأمّل: (أدع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)(26).
إذن ثمة أدوات ثلاث للإرشاد واصلاح الاخلاق:
المنطق والبرهان، والكلام الجذاب، والخلق الحسن.
وبهذه الاسلحة فتح محمد صلى الله عليه وآله وسلم قلوب الناس ورسخ الايمان في ادمغتهم ومركز قيادتهم، ولم يرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغه للدين أن يدعو الناس إلى طاعته عن تقليد أعمى أو الاستسلام لأفكاره تحت ضغط الالحاح والاكراه.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم مأموراً أن يدعو الناس بالحكمة إلى التدين والايمان بالله ويقود أفكارهم إلى الله بالموعظة الحسنة وبأسلوب مؤثر ولطيف. ومن البديهي أن الموعظة إنما تؤثر حينما تكون خالية من أي خشونة وأنانية وغرور وعناد ولا تؤدي إلى اهانة الموعوظ وتحقيره، وفي غير هذه الصورة لا تؤدي الموعظة ثمارها المطلوبة.
ولا بد أن يكون الارشاد والهداية بالدليل والبرهان الممزوج بالعطف والمحبة، أي بآداب الحوار ورعاية موازين الاحترام بتعامل مؤدب ولهجة محبوبة: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفظوا من حولك)(27).
وقد ادعى فرعون الربوبية وتصور نفسه ـ نتيجة جهله وغروره ـ خالق الناس ورازقهم فكلف الله موسى عليه السلام بوعظه وإرشاده وهدايته لينصرف عن فكره الخاطئ، وكان الامر الأول الذي توجه لموسى في ادائه لهذه الرسالة هو أن يبدأ بالخلق الحسن والقول الطبيب ويتجنب العناد: (اذهبا إلى فرعون انه طغى فقولا له قولاً لينا)(28).
وقد صرح القرآن الكريم بأن هناك بعض الحوافز النفسية والميول الشيطانية في نفس الانسان ويجب أن توجه توجيهاً صحيحاً، ولا يتم هذا إلا بالموعظة الحسنة الواضحة لأن الموعظة والنصيحة تؤثر عند ما تكون لينة ليس فيها خشونة ولا أنانية ورياء، بحيث يقتنع المنصوح أن الناصح مشفق يريد له الخير.
والتدين أمر قلبي له علاقة مباشرة بوعي الانسان ولا يمكن ترسيخ الأُسس الاخلاقية والعقائدية في ذهن الانسان إلا بالمنطق والبرهان، ومن هنا يعلِّمنا القرآن أن (لا اكراه في الدين قد تبيّن الرشدُ من الغي)(29).
والقرآن يؤكد على استعمال العقل لأن العقل اعظم نعمة الهية واسطع ضياء ينير طريق الحياة البشرية، ضياء يجعلنا نميز بين الجادة والبئر والخير والشر، يدلنا على الصراط المستقيم ويوصل البشر إلى مراقي الكمال اللائق بهم. وحينما تتعين الطريق والبئر في اشعة نور العقل فلا حاجة إلى الاكراه والاجبار في مجال اختيار السبيل، لأن كل عاقل يعرف الطريق وكل منحرف مسؤول عن اعماله وكل ما يصدر من الانسان إنما يكون حصيلة عمله.
يقول الشاعر:
وهذا طريق وبئر وعيون مبصرة وشمس
لينظر الانسان مواطئ اقدامه.
وروي في اسباب نزول الآية (لا إكراه في الدين...) إن رجلاً من الانصار يدعى أبا الحصين وكان له ابنان فقدم تجار الشام الى المدينة يحملون الزيت، فلمّا أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا وذهبا إلى الشام فاخبر أبو الحصين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله تعالى: (لا اكراه في الدين...)(30).
وقال الاستاذ محمد عبدة:
(أقول هذا هو حكم الدين الذي يزعم الكثيرون من اعدائه ـ وفيهم من يظن أنه من أوليائه ـ إنه قام بالسيف والقوة فكان يعرض على الناس والقوة عن يمينه فمن قبله نحا ومن رفضه حكم السيف فيه حكمه، فهل كان السيف يعمل عمله في اكراه الناس على الاسلام في مكة أيام كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي مستخفياً وأيام كان المشركو ن يفتنون المسلم بأنواع من العذاب ولا يجدون رادعاً حتى اضطر النبي واصحابه إلى الهجرة؟
أم يقولون إن ذلك الاكراه وقع في المدينة بعد أن اعتز الاسلام. وهذه الآية قد نزلت في غمرة هذا الاعتزاز... وهذه المسألة الصق بالسياسة منها بالدين لأن الايمان هو أصل الدين وجوهره عبارة عن اذعان النفس، ويستحيل أن يكون الاذعان بالالزام والاكراه وإنما يكون بالبيان والبرهان)(31).

هوامیش

(1) لسان العرب: مادة خلق.
(2) فلسفة كانت (ترجمته): 277 ط طهران.
(3) تاريخ تمدن (الترجمة): 4 القسم.
(4) سير حكمت در اوربا 1: 14 ط طهران الطبعة الثالثة.
(5) سير حكمت در اوربا 1: 14 ط طهران الطبعة الثالثة.
(6) بحار الأنوار 2: 111 ط بيروت.
(7) المصدر السابق: 106.
(8) الرعد: 11.
(9) تمدن إسلام وعرب: 341 ـ 342 ط طهران.
(10) ابراهيم: 1.
(11) الاسراء: 9.
(12) البيان للإمام الخوئي: 50 ط 3 بيروت.
(13) وحي محمدي ـ رشيد رضا ترجمة خليلي:
(14) تمدن إسلام وعرب: 537.
(15) ذكر الكاتب الآيات في الهامش وادرجناها نحن في المتن تتميماً للفائدة ـ المترجم.
(16) الزمر: 9.
(17) البحار 1: 44 ط طهران.
(18) فاطر: 22.
(19) الانعام: 97.
(20) آل عمران: 190.
(21) الزمر: 17 ـ 18.
(22) الانبياء: 52 ـ 53.
(23) الانبياء: 62.
(24) الانبياء: 63.
(25) الانبياء: 65.
(26) النحل: 125.
(27) آل عمران: 159.
(28) طه: 43 ـ 44.
(29) البقرة: 256.
(30) مجمع البيان للطبرسي 2: 362 ط طهران.
(31) المنار 3: 36 ـ 37.
(*) يعني الكاتب بذلك المسلمين في الاندلس.